كتبت

سندريلا

تغيضني أختي كثيراً ، في كل ظهيرة يتلصق صوتها الساخر بأذني من جهة متحداً مع الشمس المحرقة من الجهة الأخرى حيث التصق بباب السيارة وحقيبتي المدرسية على كتفي تحتل الجزء الأكبر من المقعد بينما جسدي يكاد يسقط عند موقع القدمين ، أوففف ، لأدري لماذا يكبر حجم هذه الحقيبة كل سنة ، ألا يفترض بها أن تصغر كل سنة لأني أنقل كل المعلومات التي بداخلها إلى عقلي فيكبر هو وتصغر هي ؟ ، ولماذا لا يكبر عقلي أيضاً ، هل كانت المعلمة تسخر منا حين وعدتنا أننا ذات يوم سنشاهد أنفسنا في المرآة ونبتسم لعقولنا الكبيرة ؟ ، أدرت رأسي ببطء نحو أمل ، يا ألله رأسها كبير حقاً ! أشعر أن هناك قرابة بينه وبين عجلة السيارة القابعة تحتي الآن ..

– أمل الحين إذا صرت بالجامعة زيك يصير عقلي كبير

– إيه

– طيب أنتي راسك مرة كبير الحين بس بالبيت يصير صغير شوي شلون !

– هذا حجاب ماقد شفتيني وأنا ألبسه .. احط هذي الدائرة بعدين البس فوقها الطرحة

– ليه طيب !

– بس  .. شكله يطلع حلو

عاودت النظر الي القنبلة السوداء المتصلة برأس أمل والتي ظننتها عقلاً كبيراً ،ويالخيبة أملي ، ليست سوى اسفنجة تضعها  ليبدو رأسها كالكمثرى، شكله مضحكٌ جداً ، تحسست ظفيرتي المنسدلة على ظهري ، تلمست نهايتها حيث الشريطة الوردية التي وضعتها لي أمي هذا الصباح  ،أخذتها إلى الأمام لأتسلى بها لولا أن أيمن أطل علي من مقعده الأمامي بجوار السائق وبيده شوكولا Kinder التي أعشقها يأرجحها أمام عيني يمنةً ويسره ، أفلتُ ظفيرتي من بين يدي وتسابقت أصابعي الصغيرة نحو الشوكولا لولا أنه رفعها وهو يضحك بشدة ويدير لي ظهره ليتراخى في مكانه مجدداً ويلتهمها ! ، أقف بكل حماسٍ كجنديٍ سمع دوياً وفز من مكانه ، حشرت نفسي بين المقعدين الأماميين ورأسي متأهب في المقدمة ..

– أبييييي يا بخيل أنا كل يوم أعطيك

– لأ

– نص طيب بس صغيييرة

– لأ

يقولها وقد تلون طرف شفته العليا بخط رفيع من الشوكولا الذائبة مع حرارة الجو ، ذابت الشوكولا في فمه وبين أصابعه وذاب قلبي ونظراتي معها ، تنفست بغضب وفتحت فمي بأقصى إتساع وجمعت كل طاقتي حتى خيل لي أن صوتي سيفزع السائق ويهز السيارة تماماً كما في أفلام الكارتون ، لكن صدري أنخفض ببطء بعد أن كان مرتفعاً بشهيقٍ كبير، تمتمت بصوتٍ خافتٍ أكله اليأس وخنقته عبرات القهر ..

– أوريك بكرا والله لا أشتري وأكل بالسيارة قداااامك وتحلممم لو تموووت ما أعطـ … وأنقطعت عبارتي في ذات اللحظة التي توقف السائق فيها فجأة وكنت أنا في أقل من ثانية ملقاة بكامل جسدي النحيل بين المقعدين الأماميين وحقيبتي لا تزال على كتفي بينما وجهي ملتصق بمسجل السيارة !

– أييييي يعور : (

اسندت نفسي من جديد وضحكاتهم تشعرني برغبةٍ في القتال ،عدت لمكاني بعد معركةٍ خاسرة وشعورٌ بالخيبة والألم والطفش والحر والنعاس يتملكني ..

في المنزل كنت بين كومة دفاتري وأقلامي المنثورة ،أكتب فيها تارة وأرمي القلم بجانبي تارة أخرى لأستلقي أمام كرتوني المفضل في سبيستون ، حيث الفتاة الطيبة المظلومة تصارع قوى الشر وتتغلب عليها في نهاية الحلقة ، أستلقي على سريري وأتخيل أيمن يجذب ظفيرتي من الخلف بمساعدة رفيقه وأنا أصرخ في وجهه ، يتركني ثم يعود ليفعلها من جديد ، أتذكر فتاة الفصل الشريرة التي تخربش بإستمرار على طاولتي غير مبالية بحرصي على نظافتها ، وتلك الشرير ة الأخرى التي تضحك على شكلي حين أحمل حقيبتي الثقيلة فيميل جسدي النحيل للخلف قليلاً ، أتذكر أستاذة أسماء ونظرتها المرعبة وإصبعها الموجه نحوي كي أخرج لحل المسألة على السبورة ، أيمن والشوكولا التي يلتهمها أمامي دون أن يقاسمني فرحته فيها ، أختي أمل وأوامرها التي لا تنتهي و فساتينها التي تستعرض بها أمامي وكأنها حقاً تنوي أخذ رأيي حين تسألني :

– جوجو وش رايك حلو علي الفستان ؟

– الله يجننن مرة !

تنصرف قبل أن أكمل كلمة ” يجنن ” لأنها لم تكن تريد رأي طفلة ، فقط كانت تقولها هكذا اعتباطاً ، آه لو أمكنني مقاتلة كل الأشرار في هذا العالم بمن فيهم أيمن و ” أبلى أسماء ” وفتاة الفصل الشريرة وتلك الأخرى المدللة التي لاتريد مني التحرك قيد أنملة حتى لا أصطدم بكرسيها دون قصد وأمل الشريرة التي تحرمني من سبيستون في كل مرة تسحب فيها ” الريموت ” من يدي بدون استئذان لأنصرف لبقعة أخرى من هذا العالم ، و عاملة النظافة في المدرسة تلك التي أخافتني بقطة تداعبها فاطلقتها خلفي وأنا أركض حتى أوشكت على البكاء  ، والسائق الأحمق الذي يضحك مؤيداً لأيمن حين يراشقني بكلمات السخرية أو يدوس على طرف مريولي أو يمسك حقيبتي من الخلف وهو يصرخ ” فرااامل فرااامل ” . ..  وأنا أكاد أبكي ”  أيمن والله لا أعلم أميييي ” ..  أووف حانقة أنا على كل أشرار الدنيا ، حين أكبر سأقاتلهم بالتأكيد ولن أسمح لأيمن أن يقود دراجتي الجديدة مهما طال رجاءه لي ، وسأرقص أمام أمل بفستاني لأغيضها دون أن أسألها إن كان جميلاً أم لا ، سأرتدي حذاءً عالياً وأضع أحمر شفاه وأمشي كطاؤوس لكني لن أكون شريرة ..

في المساء كنت أمشي بخطوات بطيئة معوجة ومتعثرة ويداي مشغولتان بلملمة أرجاء هذا الفستان الطوييييل المترامي الأطرف الذي يغطيني حتى لا يكاد يظهر مني سوى رأسي ، تسللت ببطء من غرفتي بعد أن تأنقت بالكامل وخرجت إلى صالة المنزل حيث المرآة أمامي بمنظرٍ بنوراميٍ يجعلني كـ ساندريلا .. مررت بصري بإعجاب على شكلي من رأسي إلى أخمص قدمي ، فستان أسود أنيق ، أقراطٌ لامعة ، حذاءٌ عالي ، أحمر شفاه تجاوز منطقة شفتي إلى الحدود الخارجية بكثير وكأني كنت أرسمه على شفتي تحت تأثير زلزال أو هزة أرضية ، كحلٌ أسود امتدت خطوطه حتى كادت تلامس أنفي وكأنه رُسم بفرشاة طلاء جدران ! ،شعرٌ مرفوع كطريقة أمل حين تسرح شعرها في الحفلات ، الفارق أن خصلات شعري المرفوعة يمكن عدها بينما المتساقطة حول جبيني وكتفي هي كل شعري ومع ذلك لا زلت مصرةً على أنها ” تسريحة ! ” ، مشيت ببطء ونظراتي  كلها إعجاب حلقت فيه طفولتي مع جمال سندريلا في حفلتها الراقصة ..

رفعت رأسي بثقل وصوت أمي يمزق بقايا نومي :

– جوجو يالله حبيبتي قومي تأخرتي ! وش جاب فستان أمل وجزمتها لغرفتك،ومرمية ع الأرض بعد ! ياويلك لو تشوفها !..

تأملت النافذة ، عاد الصباح !

أنتهت حفلة الأمس !

عدتُ جوجو الصغيرة من جديد !

القيت نظرة يائسة على فستان أمل الملقى على الأرض بجوار حذائها العالي ، وخلفهما تماماً تجلس حقيبة المدرسة الوردية وصورة سندريلا تبتسم على الحقيبة ، رميت رأسي بقوة على الوسادة مرة أخرى ..

– أووفففففف طفششش  ..  متى أكبر ..؟

10 thoughts on “سندريلا

  1. بليغ هو الحرف هنا

    وفياض هو القلم

    أختي نورة

    استمري
    فلدكي مستقبل أدبي ليس بالسهل أظنه

    تقبلي تحياتي

    باسل

    Like

  2. جميـلة هي الطفوله ..
    حين تستنشق نسيم براءتها …
    جوجو الصغيره .. 🙂
    لا تستعجلي الغد , وَ كونـي فـيْ حدود يومك ..
    نُـٍـٍورَه ..!
    تتعايشين مع الخيال بكل اتقان ..
    ألا يليق مقامك أن يكون قدوةً لِـي وَ مثلاً أعلـى ..؟!

    Like

  3. :

    الله يانورة
    منذ زمن لم أستمتع بقراءة قصة كهذه
    لكِ حس جميل يليق بأن يستمر في الكتابة عبر أدب الطفل
    أحببت كل تفاصيل القصة واسلوبكِ الشيّق في الطرح ❤

    (لأدري لماذا يكبر حجم هذه الحقيبة كل سنة ، ألا يفترض بها أن تصغر كل سنة لأني أنقل كل المعلومات التي بداخلها إلى عقلي فيكبر هو وتصغر هي ؟)
    ^
    الله الله ..

    Like

  4. لدي أحساس بأنني بحاجة لقرآءة الباقي من هذه القصة القصيرة ،،
    كتاباتك رآئعة -ماشاء الله- ولديك وصف حسي رآئع للأمور والمشاعر ..

    أعجبتني هذه المقولة جداً (لأدري لماذا يكبر حجم هذه الحقيبة كل سنة ، ألا يفترض بها أن تصغر كل سنة لأني أنقل كل المعلومات التي بداخلها إلى عقلي فيكبر هو وتصغر هي ؟)

    ^_^

    Like

  5. ياقلبي عليها عورت قلبي

    خصوصًا مقطع التلفزيون محسره عيال أخوي أحول وأطنشهم

    صرت أحس بالذنب 😦

    قصصك رائعه تبدعين في كل مرة

    باركك الله

    Like

  6. كم أحببت سندريلا الصغيرة وأشفقت عليها.

    ومثل كل مرة، تأسرني نصوصك حتى أكاد أصدق كل ما فيها.

    موهبتك تتصاعد في كل تدوينة يا نورة، فلا تجعلي لها سقفاً.

    Like

  7. روووعة ..
    حسيت اني عشت كل اللحظات ..

    مبدعة نورة كما عهدناك ()

    Like

  8. حين انتهيت القراءة .. طرأ بخاطري سريعاً قول الصديقة ( عُزلة ) حين كتبت :
    في السابق حين كنا نسهر طويلاً كان الأمر مُتعة طفولية لأننا نتجاوز القوانين الوالدية،أما الآن فصرنا نشتهي نوما حقيقيا،يطرد أرق ال٢٠

    ،

    نورة ، أشعر بأن تدويناتك قطرات مطر روحيّة ()

    Like

Leave a comment